بقلم... جواهر الحارثي

ولدت فكرة التحسين المستمر من رحم الحرب العالمية الثانية عندما أدركت القوات الامريكية آنذاك أن الوقت والموارد في حينها لا تسمح بإجراء تغييرات كبيرة أو مبتكرة، وأنها بحاجة إلى خطوات أسرع للنجاح، لا سيما مع حاجة دول التحالف لسرعة توفير المعدات العسكرية والقوى المؤهلة لمواجهة تحديات المرحلة، فعمدت الولايات المتحدة الأمريكية إلى تقديم دورات إدارية لشركاتها في جميع أنحائها باسم (التدريب في إطار التصنيع TWI )؛ ولعل هذه الفكرة كانت اللَّبِنَة الأولى لنشأة منهجية الكايزن اليابانية وانطلاقها من مصانع شركة تويوتا تحديدًا على يد الخبير الياباني تايتشي أوهنو عندما حوّل إجراءات العمل من مجرد آليات عملية إلى ممارسات سلوكية تضمن تحسين الإنتاج بشكل مستمر وتمكين القوى البشرية واستثمارها لإعادة إصلاح اقتصاد البلاد الذي عانق الانهيار عقب الحرب العالمية الثانية، وذلك من خلال مراقبة الأخطاء وإجراء التحسينات عليها بشكل فوري لتقليل الفاقد في الإنتاج، ولدعم الفكرة وتجويدها قام الاتحاد الياباني للعلماء والمهندسين بدعوة خبير الجودة الأمريكي “ادوارد ديمنج” الذي كان أحد مناصري فكرة التحسين في أمريكا ليقدم لهم مزيد من النصائح والتدريب على الأساليب الإحصائية، كان ذلك قرب نهاية حقبة الخمسينات من القرن العشرين.

انطلقت تلك المنهجية باقتصاد اليابان إلى مستويات غير مسبوقة، وانتشرت للوجود عام 1986م على يد الخبير الياباني ماساكي إماي من خلال كتابه (كايزن مفتاح المنافسة اليابانية) وهي تعني حرفيًا التغيير للأفضل وتترجم إجمالًا التحسين المستمر Continuous Improvement، ولا تزال تُدرس هذه المنهجية إلى وقتنا الحالي2020م أي خلال ما يزيد عن سبعين عام من أجل محاكاة نجاحها؛ ترى ما سر نجاح هذه المنهجية؟

لا شك أنها لم تكن عصا سحرية وليست أسطورة يابانية، باختصار هي ثقافة سلوك أصيلة، تكمن خلفها خطوات صغيرة مألوفة لا تعرف التعقيد أو التكلفة التي نفّرت كثير من المجتمعات من فكرة التغيير خوفًا من الفشل، فعلى المستوى الشخصي يقبع الفرد داخل نفسه يصارع طموحاته وتحدياته خوفًا من التغيير، وعلى المستوى المؤسسي يتضاعف قلق التحرر من قيود الروتين الآمن لبقائهم من وجهة نظرهم حتى لو لم يتقدموا، إلا أنهم جميعًا يغفلوا التقادم الذي سيسكُنهم لا محالة إن لم يتقدموا؛ 

الجدير بالذكر أن أصالة تلك الثقافة تنطلق من أعظم منهج تنموي للبشرية “القرآن الكريم” الذي جاء فيه قوله تعالى ((لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر)) ففي الآية الكريمة إقرار لمبدأ التحسين المستمر الذي تمايزت به الشعوب المتقدمة.

مسك الختام: 

انفجار بيروت اللاحق بجائحة فيروس كورونا المستجد كوفيد 19 في غضون عام واحد يؤكد للعالم أن الحروب الدموية ليست هي فقط المدانة بتدميره، والتحولات المتطاردة في العالم تعني وقوع تغيرات تستدعي التغيير الفوري؛ فاليابان لم تأتِ بمعجزة كونية لاستعادة قوتها بعد الحرب العالمية الثانية لكنها ضربت بعصا التغيير الثقافي الفكري القائم على قوة الإرادة والمبادرة بخطوات صغيرة لإحداث تحسينات كبيرة مرهونة باستمرارها؛ فهل لا نزال نحتاج إلى مزيد من الوقت لاتخاذ قرار التغيير؟