هلال العيسى

اصدرت الكاتبة فاطمة حسن الغنام كتابها الجديد الذي يحمل عنوان “بين العقل والعضل”، ويتحدث عن فتاة في “قرية التوليب” ، تلك التي كان ظهرها قويًّا بما يكفي لتحمّل سلّة من بذورِ التوليب كلّ يوم ،ٍ تحملها بحزام تشدّ به خصرها وفكرها.. ثم توزّعه على المزارعين والأهالي وكأنّها نذرتْ أن تزهر ربوع قرية كاملة.

هكذا كانت سارا صديقتي اللاتينية القادمة من دولة الدومينيكان ريبابلك لتكمل دراستها بالولايات المتحدة وتعود لتعلّم عشرات الأطفال في قريتها الصغيرة القابعة تحت خطّ الفقر والّتي أنهكتها الزلازل فشاختْ في خارطة العالم وأصبحتْ شيئًا لا يذكر .

التحقت سارا بجامعة ديلوير في ولاية ديلوير الأمريكية وهي تعلم أنّ هذه الجامعة الفسيحة ذات الإمكانات العلمية والبحثية المتقدمة ستخرجها لتعود معلمة في تلك القرية الهرمة و تدرّس صغارا في حقولٍ يابسة، أقصى إمكاناتهم ألواح خشبية وطباشير مكعبة يتوجب على كلّ طفل أن يحفظ طبشوره لمدة أسبوعين، يتضاحكون على البقرات الهزيلة التي تمرّ بجانبهم ويتقافزون لكسرات خبز يابس الأطراف كلّ صباح. ولكن سارا لم تأبه لكل ذلك؛ فهي تحلم وتسعى لإغاثة ما يمكن إغاثته من العقول؛ لأنّها تؤمن بأنّ إعداد الطفل الإنسان أهم من كلّ شيء.

تذكّرتُ سارا في هذا اليوم فجأة وأنا أسحب الأثقال للخلف بجانبي خصري في تمرين تقوية عضلة الظهر، لا أعلم مالذي حفّز ذاكرتي طويلة المدى، وأفاق من متاهاتها صور سارا، وذكريات سارا، وصوت سارا وولعها بمشروب الشوكولاته الساخنة، وضحكاتنا ظهيرة كلّ يوم بعد انتهاء حصص اللغة الانجليزية في معهد إي إل آي، وذهابنا لمطعم الجامعة مرورا بسكة قطار حديدية تفوح منها رائحة الانتحار.
وبالرغم من انقطاع اتصالي بسارا لأكثر من سبع سنوات بعد تعرض إيميلي للتهكير وفقدان كل جهات الاتصال المحفوظة إلا أنّني لا أنسى إلحاحي عليها بأن تبحث في شجرة عائلتها فقد تكون من أصول عربية لجمالها العربي وكانت تمازحني بأنّها كذلك.

إنّ الذكريات لا تموت إذا ارتكزت في الذاكرة بعد فوج من المشاعر والأصوات والروائح والأحاسيس.
قد يتعطل هاتف نقال يحوي صورا جميلة فنفقدها، وقد يحترق فيلم كاميرا تحوي صورا جميلة فنفقدها؛ إلا أنّنا لا نفقد الذكريات الجميلة وإن اختبأت في طي النسيان أو المرض،إنّها متواجدة في الذاكرة بشكل أو بآخر .
أنهيتُ تمارين عضلاتِ الظهر وأنا أشعر بألم طفيف أسفل المنكبين وعبست بوجهي حينما تذكّرت أنّ عضلة الظهر من العضلات الكبيرة والتي تحتاج إلى ٧٢ ساعة لتتشافى، ولكنّنا نهتم بتمارينِ عضلاتِ الظهر لأنّ قوة أعلى الظهر تدعم الأكتاف والصدر، كما أنّ قوة أسفل الظهر تدعم الجزء الأسفل من الجسم، وقد زاد اهتمامي بتقوية عضلات الظهر لما رأيت بأنّي أصبحت أكثر قدرة على حمل الأشياء الثقيلة، فأصبحت أروج لهذه التمارين حينما أتحاور مع كلّ أم وكلّ زوجة وكلّ فتاة تعيش سلسلة من المسؤوليات.

نحن نحتاج إلى هذه القوة في أحيان كثيرة حتى لا نضطر إلى الاتكاء على أحد والحاجة لأحد في حين أنّنا قد نجد من يساعد وقد لا نجد، ولأنّ عضلة الظهر من العضلات الكبيرة فهي تحتاج إلى أوزان ثقيلة لتمرينها، وكذلك نحن..نحتاج في بعض الأحيان إلى ثقل الظروف والتجارب؛ لتتناسب مع اتساع أرواحنا، ولتستخلص ما نكنزه من الصبر والشكر والرضا، ولتوقظ تلك الأماني النائمة وتستنهض القدرات المخبوءة والمزايا الدفينة.

حملت سارا على ظهرها سلّة من بذور التوليب كلّ يوم، وهي تحملُ في فكرها همّ محاربة الجهل والتغلب عليه في قرية محدودة الإمكانات، وقد سقت تلك البراعم وأزهرت عقولهم لتعبق القرية بنور العلم والمعرفة والتقدم تماما مثلما أزهرتْ بالتوليب وعبقه.

سارا ليباركك الله أينما كنتِ..