مهدي السروري

حدثٌ مؤلم ،
وفاجعةٌ كُبرى ،
ألمّت بأبناءِ خالي في وفاةِ أمهِم وأخيهِم في وقتٍ واحد ،
اللذين تم دفنهما بعد صلاة فجر يوم الجُمُعة الماضي ١١ شوال ١٤٤٠ في قرية أبوالقعائد ،
مات الابن فكانت الفاجعة والصدمة على أمه التي لم تتحمل فراق ابنها فدوت صرختُها الأخيرة ولحقته ، في حينه ، بعد سماعِها خبر وفاةِ ابنِها المؤلم ،
و ياله من مشهد مأساوي ،
ناح لأجله الجميع !
جموعٌ غفيرة من أهل القرية ومن خارجها أدوا الصلاة عليهما وشيعوهما للمقبرة في لحظة مؤثرة دامعة .
كُنتُ أنا وجميع أهلي وأقاربي وأصدقاء أبناء أسرة المتوفين وأهل قرية أبوالقعائد نعيشُ قمة الحزن ،
لهذا المصابِ الجلل .
دخلتُ مع أخي علي ابن خالي وشقيق المتوفى وابن المتوفاة ،
إلى منزلِ الأسرة،؛ لتوديع المتوفين وتقبيل رأسيهما .
حملتُ معهم الجنازتين واحدةً تلو الأخرى ، حيث كانت قدمي اليمنى بها كَسرٌ فتناسيتُ ألمَ الكَسرِ لأن في القلبِ انكساراً أشدَ ألماً من القدم ، ففاق الألمُ النفسي على الألمِ الجسدي بعد أن عِشتُ الحزنَ في تلك اللحظةِ من رأسي حتى أخمصِ قدميي ،
وأثناء حمل الجنازتين من المنزل وإلى المسجد كُنا نسمع صوت الحزن والأسى في جهيش البكاء ونبراته الذي يندفع من أفواه أفراد العائلة عند وداعِهِم لأمهِم وأخيهِم وأبيهِم وخالِهِم وعمِهِم وجدتِهِم .
وإن انهمار أصوات الوداع مزقت أعماقي دون هوادة،
وأقشعر شعرُ جسدي منها فذرفت عيناي دموع الحزن والغياب الأبدي، مشاركاً أبناء خالي ألمهم في هول مصيبة الموت التي نزلت بهم !
وهناك تنوعت عباراتُ الوداع من قريبات المتوفى والمتوفاة ،
نعم إنه الرحيلُ المر الذي بكى منه المكان وتأوه فيه الزمان.
رحلا وبقيت الذكرى التى لاتُنسى ،
هو موقفٌ كان يهطل بالأنين ،
موقفٌ كان فيه الحُزنُ يمزقُنا من الوريد للوريد ،
موقفٌ تنهمر فيه الدموعُ دونَ إرادة ،
وتظهر فيه المشاعرُ الصادقةُ دون تزييف!
وهو وقتٌ قاسٍ تجرع فيه أهلُ المتوفين مرارةَ ألمِ الفقد لأقربائِهم ، تناثرت – حينها –
عباراتُ وكلماتُ الدعاء والوداع :
الله يرحمك يا أمي ،
الله يرحمك يا أخي ،
الله يرحمك يا أبي ،
الله يرحمك ياخالي ،
الله يرحمك يا عمي ،
الله يرحمك ياجدتي ،
الكلُ شريك في هذا المصاب الأليم.
كانت العبارات ممزوجة بنواحِ القلبِ ونزيفه ، و تحكيه دموعٌ سُكِبت في لحظةِ الرحيلِ وتأبى أن تجف.
في تلك الساعة كانت صورة الوجع لتلك اللحظة ترويها دموعُ الفراق وآهاتُ الألم ، فيظهر ضعفي الحقيقي أمام هذا المشهد المهيب لأن لي قلباً رحيماً رؤوفاً عطوفاً وهبني اللهُ إياه فتدفقت دموعي بلا توقف مُعلِنةً إحساسي بألم الفقد لمن فقد قريباً له.
تبخرت الكلماتُ في هذا الموقف ولم تبق إلا لغةُ الدموعِ والأسى والوجع الذي يسكن بين الضلوع ،
ألمٌ لفراق أم ،
وألمٌ لفراق أخ ،
وألمٌ لفراق أب ،
ومن في الدنيا كالأم فهي نبض القلوب وغيمة مطيرة بالرحمة والحب والحنان، إنها الحياة الكبرى لنا.
ففقدان الأم فقدان لكل معاني الحياة ، وفقدان للحنان ،
وفقدان للحُضن الدافئ ،
و من في الدنيا كالأخ فهو السند وهو الذي يُشدُ به الأزر ،
ففقدانه كسرٌ لا يُجبر ، وحياة من دونه تتعثر .
ومن في الدنيا كالأب ففقدانه فقدان للغطاء وقت الشتاء ، وفقدان للدعم والرعاية والقوة والسخاء ،
و هكذا هي الحياة الدنيا نمشي فيها ولا ندري متى تُفاجئنا الأقدارُ بموتِ قريبٍ أو صديقٍ أو زميل ،
ويجب علينا أن نتعامل مع المصائب كما أمرنا نبيُنا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ؛ لكي نؤجر عليها ،
وهناك حكمة يختبر اللُه
– سبحانه وتعالى – بها الإنسان بالابتلاء بالشدائد والنوازل ، فالمؤمن يصبر و لا يجزع؛احتساباً للأجر والمثوبة من الله – تعالى- وطلباً لرضاه.
فإن الصبر عند الابتلاء والرضا بالقضاء له أجر عظيم عند الله تعالى ،
والمؤمن مُبتلى ،
فآلامُ الدنيا تصنع في أعماقِنا جراحاتٍ نازفة؛
لأن فقد القريب هو جرحٌ في القلب وغصةٌ في النفس ووجعٌ يظهرُ في أعيُنِنَا ،
و صدى لما في النفسِ من آلام الفراق والحسرة.
اكتوى أبناءُ خالي وأقرباؤهم بآلام الفقد ،
فكانوا يحاولون إخفاء الحزن ولكن كان يظهر في أعينهم ،
وعلى شدة مابهم غير أنهم كانوا يستقبلون الناس بابتسامة الرضى بقضاء الله وقدره ،
والمؤمنُ يحمد الله تعالى إذا نزلت به مصيبةُ الموت ،
ولا ينفعُ في هذا الموقف سوى الدعاء لهما بالرحمة والمغفرة والعفو والصدقة عنهما.
وهكذا علينا أن نصبر عند نزول المصائب ، ونصنع الفرح لننثره على وجوه الآخرين ،
فالابتسامةُ تُعانقُ ذلك الوجع الذي يعتصِرُنا ،
ونركضُ بها في طرقاتِ الحياة بصمتٍ ولا نتكلم عن بؤسِنا وأسانا؛ رضاء واستسلاما بما الله صانعُ.

مهدي السروري
جازان
١٥ شوال ١٤٤٠ من الهجرة