بقلم/أميرة بنت حميد الغامدي

أقيم معرض (فنن) في مركز الأمير سلطان الحضاري بمدينة جازان ضمن فعاليات شتاء جازان 2023، برعاية كريمة من صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن ناصر، أمير منطقة جازان، وتحت إشراف الأستاذ موسى خرمي؛ وقد جاء أشبه بمحفلٍ هوياتي، تجسّدت فيه الأفكار والرؤى الوطنية عبر الأعمال الفنيّة المعروضة، مشكِّلة متعة للمتلقي لا سيّما المنتمي إلى الهوية ذاتها.
لطالما كان تأكيد الهوية والانتماء هاجس البشرية الأول، وعليه نُظِمت الأشعار، وكُتِبت الملاحم، ومنذ أقدم النصوص العربية التي وصلت إلينا من الجاهلية البعيدة ونحن ندرك الحاجة للانتماء، والرغبة في تأكيد الهوية، ورغم الرأي القائل بأن الأعمال الفنيّة ليست وثائق تاريخيّة، وليست انعكاسًا للواقع ولا ينبغي عليها أن تكون، إلا أن تسليط الضوء عليها وفقًا لسياقاتها الاجتماعيّة والنفسيّة والتاريخيّة يضفي عليها أبعادًا جماليّة قد لا تُدرَك بمعزل عن هذه السياقات.
إن المتلقي للأعمال الفنيّة في معرض (فنن) يمكنه ملاحظة حضور الهوية السعودية بوضوح، فرغم التعدديّة في المعرض على مستوى طبيعة الأعمال، والخامات، والتكنيكات، والمدارس والتيّارات الفنيّة، إلا أن كلّ ذلك شكّل بطريقة ما معزوفة حول (الهُويّة المحليّة). مختالة في نغمٍ عذب، وضربات من ريشة فنان، والتقاطة مصوِّر، ويد نحّات، ويكمن التحول في الشعور بالكيان الجمعيّ، ورغبة الانتماء لهذا الكيان، والاستظلال بظلِّه، في سياق التغيّرات والتحوّلات الاجتماعيّة والمعرفيّة العالميّة، وحيث تتصاعد وتيرة القفزات الوطنيّة علوًا واتساعًا في مختلف المجالات، يتحرك الانتماء هنا رغبةً لا حاجة، ويصدح خطاب الهوية ترنمًا وترتيلًا لا إثباتًا وتأكيدًا.
كما ينبعث الشعور بتجذر الانتماء والأصالة من تراتبية العرض، بدءًا من النحت، ثم الكتابة، ثم تصوير الواقع، وأخيرًا تشكيل انعكاسات الواقع، وكأنها البداية المنطقية للإدراك الإنساني للواقع وتوثيقه أو إعادة صياغته وتمثيله. ففي جناح المعرض لفنون النحت وجدت منحوتة لـ (بوابة العلا) وهي المعلم الذي يعاد تقديمه الآن كواجهة تؤصل الوجود الحضاري على هذه الأرض. وفي جناح المخطوطات العربية كان الحضور الطاغي للقصائد الوطنية، والأهازيج المحليّة، وفي جناح التصوير الفوتوغرافي كانت التقاطة قطاف البن، وعصائب الفل والورد، و “وضين الطفي”، و”خبيط الخضير”.
وتضمنت آخر واجهات المعرض جناح اللوحات التشكيلية، ومنها لوحة شكّلت الحضارة المعمارية للمنطقة من الساحل حتى الجبل فانطلقت من “عشاش” الساحل حتى “دارات الجبل”. وأخرى للمرتكزات الدينية والثقافية وما بني عليها من حضارة، ومن اللوحات المميزة عمل فني على مادة الطفي يجسد صورة لرمز التغيير في المملكة العربية السعودية ولي العهد الأمير محمد بن سلمان حفظه الله.
وتكمن البراعة في تأصيل الهوية المحليّة ضمن تيارات الفن ومدارسه العالميّة، حيث وظِّفت التعبيريّة والتكعيبيّة والتجريديّة والواقعيّة وحتى السرياليّة. كما يتمثل ثراء تجربة الحضور لمعرض (فنن) في إثارة دهشة المتلقي، وتوظيف الذائقة الفنية وتوجيهها لبناء موقف ثقافي، وتشكيل وعيّ جمعي، بالتركيز على محددات الهوية في ذاتها لا في تعالقاتها مع الآخر، وفي منشأها وتكوينها لا مظهرها وتوصيفها، وفي التمسك بالخصوصية الثقافية وإثبات قدرتها على المواكبة والمعايشة، الأمر الذي يُشعِر الزائر بكثافة الحضور، وعمق التجربة، والامتلاء بالألفة والانتماء.