عادل البشراوي

لا أدعي المعرفة بأخبار شعراء الأجداد وقصائدهم، وحقيقة فقليل منا اليوم يستطيع إدعاء ذلك.

نحنُ حتماً مقصرون في فهم أهمية التراث وحفظه.

ليتنا كنا كما أقراننا في الجوار نتذاكر قصائد الأجداد ونحرص على مجاراتها.
جوارنا البدوي لم يمنعه تحضره من إستذكار تراثه النبطي والتغني به، وقد أرجع تمسكهم بهذا التراث لأسباب من ضمنها إحتفاظهم بطبيعتهم القبلية.

يجتاحني شعور بالإنزعاج حين أرى بعض أفراد حاضرتنا يتلو قصيدة نبطية ويحاول محاكاتها ، هو شعور أعي عدم واقعيته، فالفن بأشكاله جميل وبعيداً عن اللغة والهوية.

ولكنني أتساءل هل تسنى لهذا سماع فن الزهيري الذي يختزل ثقافة تضرب بجذورها عمق تاريخ منطقتنا التي خصبتها حناجر كابدت أمواج البحر العاتية وشقت السدود لري غابات النخيل وحقول اللومي والإترنج، فصدحت بمواويل سطرت لنا اليوميات بكل ماتحمل من تعب وكد وعاطفة.

وكي لا أكون قاسياً في الحكم، أقول أن هؤلاء لم تتح لهم قناة ولا مجلة ولا حتى صفحة في جريدة تعرفهم بتراث الأجداد كما أتيح للشعر النبطي.

إطلاعي البسيط بهذا التراث يجبرني ذكر شاعر عاش في جزيرة تاروت وتوفي قبل أقل من قرن.
هذا الشاعر هو :عيسى بن محسن آل عيد من جزيرة تاروت.
كان من النوابغ في فن الموال الشعبي حتى أن قصائده كانت ولا تزال مادة دسمة لأهل الخليج بأطيافه يشدو بها النهامون ويتغنى بها مؤدوا فن الصوت المنتشر في الخليج.

كانت قصائده مصدر سلوى وأنس لأهل الخليج كافة، وخصوصاً البحارة والغواصين الذين كابدوا ألم الغربة والخوف أشهراً في عرض البحر.

لا أنكر أن هناك من تصدى للتعريف بالشاعر، وأذكر على رأسهم أستاذنا الكبير الكاتب والمؤرخ الدكتور علي الدرورة حيثُ وضع مجموعة من الدراسات الخاصة بالموال ، و الذي أعول عليه في إماطة اللثام أكثر عنه وعن غيره ممن تقدموا ليتضح لنا ماضينا المستتر عنا وراء غمام النسيان والتعتيم.

لست هنا بغرض تسجيل يوميات الشاعر بقدر ما أتقصده من التعريف بهذا التراث العريق.
وأنا على يقين أن تناول هذا الفن في منتدياتنا وفعالياتنا كفيل بأن يبعث جيل جديد يتاح له تذوقه فيباشر في إحيائه.

ولمن يتسائل عن السبب في اهتمامي الكبير بإحياء التراث أقول إن قوة شخصية الفرد تنبع من قيمة ما يحمله من حضارة، فترى الشعوب التي ترعرعت على أراض نشأت عليها حضارات متقدمة أقوى وأقدر في أن تساهم في البناء والإبداع، وتجد أفرادها يتمتعون بشخصيات قوية نابعة من إحساسهم بالعزة والفخر، على أن ذلك مشروط بدرايتهم وتواصلهم بهذه الحضارة.

أخيراً أود أن أسوق لكم بعضا من تراث الشاعر عيسى بن محسن فأريكم عبق الشجن الذي نسجته قريحته.

هذه نماذج من المواويل التي كانت تردد لشاعرنا :

كثر التناهيم وهجرانك نحل خاطري
ولا نامت العين عنكم ماسلا خاطري
وإن كان يا زين خاطركم مثل خاطري
إيش السبب ماتداوي علة المجروح
قبل يبيد الجسم لو يبتلي بجروح
مرة تقل لي تعال مرة تقلن روح
ماهو بالإنصاف منكم تبشعوا خاطري.

وأيضاً:

أجمال صبري على دار الحبيب أبراك
ومن المدامع عيوني ترسن أبراك
يا أريش العين عيني فالدجى تبراك
والله لعصي جميع الناس وأطيعك
وأحارب القوت وقوتي من أصابيعك
الناس ما هي سوى انظر لصابيعك
وإن ردتني لك ولف يا حلة الأبراك

على أنني توقفت عند أبيات له تضج سحراً ورومانسية وتصور حقيقة شهرته وإبداعه.
يقول من أسمعني الأبيات أن الشاعر خرج من بيته يريد توديع أحباب له بلغه أنهم مسافرون فتوجه مسرعاً لتوديعهم، ولما بلغها وجدهم قد غادروا.
فقال مقطوعته الباكية:

جيت أنا القنطرة رأيت القنطرة تجري
وقلت ياقنطرة مامروا عليش أهلي
قالت بلى مروا طلعة الميزان في الفجر
أخذوا خشبهم وخلوا دمعتي تجري.
___________________
القنطرة:
الجسر الموجود فوق البوابة الرئيسية لمدخل الديرة بتاروت.
خشبهم: سفنهم.