بقلم / يوسف الشيخي

هل هناك من لم يسمع بجحا فأوردُ له شيئًا من طرائفه؟!

لا أعتقد أن شخصيةً كتلك يُفَوِّتُها إلمامُ أحدنا؛ فقد روت لنا مقرَّرات المطالعة و القراءة القديمة بعض حماقاته، و حيله، و مواقفه المضحكة، و فتحت لنا تلك المقررات المشوِّقة أبواب الرغبة في قراءة المزيد على مصارعها، فأصبحنا نتسابق إلى مكتبة المدرسة المتواضعة في الفسح وحصص الفراغ؛ ليظفر السابقون منا بما نَدَرَ من أقصوصاتٍ صغيرةٍ عن جحا، نلتهمها قراءةً، و لا نملُّ من تكرارها في كل مرة (جحا والدجاجة، جحا و المسمار، جحا في السوق…). 

ظلت حكايات جحا على مدى أزمانٍ أحاديث ركبان، وروايات سَمَرٍ فوق الكثبان، حتى أنه أصبح لبعض العصور و الشعوب جحاها الخاص، الذي استنسخه جحا الدولة الأموية (أبو الغصن دُجين الفزاري) قبل أن يفنى؛ ليجد الناس له بديلا يرسم على شفاههم البسمة، ويطلق من أعماقهم الضحكة، ويهوِّن عليهم ما يخرجون به من زحام الحياة من ألمٍ و قلقٍ و اظطرابات. 

مرَّةً احتاج جحا لبعض الدنانير؛ فوضع حيلةً محبوكة، وقرر أن يبيع الدار، لكنه قبل ذلك يجب أن يدقَّ مسمارًا على الجدار، دقَّ المسمار، و أعلن عن بيع الدار، فجاء المشتري وتجوَّل وأعجب بالعقار، وسأل عن القيمة، فقال له جحا: الدار بعشرة دنانير، والمسمار بمئة دينار. استرخص الرجل قيمة الدار؛ فضحك وقال لجحا: و ما حاجتي إلى مسمار؟!

تم البيع، وكُتب العقد بشروطه حول المسمار، و استلم جحا الدنانير، فانطلق مسرعًا إلى السوق، واشترى لحمًا، و وضع اللحم في كيس، و حمله إلى الدار، وطرق الباب فخرج الرجل، واستأذنه جحا في الدخول ليعلِّق كيس اللحم في المسمار، دُهش الرجل من طلب جحا لكنه لم يمانع، فالمسمار من حقه؛ لأنه خارج العقد. علَّق جحا كيس اللحم وغادر، وجعل يتردد كل يومٍ على صاحبه ليتفقد كيس اللحم، إلى أن أصاب الرجل الملل والضجر. وبعد أيامٍ تعفَّن اللحم، و ملأت رائحته البيت؛ فتوسل الرجل إلى جحا أن يخرج الكيس، غير أن جحا رفض ورد قائلاً: المسمار ملكي، و من حقي أن أعلِّق فيه ما أشاء، و أزوره وقتما أشاء. غضب الرجل، وانهال على جحا بالسباب و الشتام، ورد عليه الدار بما فيها و غادر، وربح جحا بحيلته الدنانير والدار.

اليوم يتكرَّر جحا، ويتكرَّر المسمار، لكن بصورةٍ غير مضحكة، بل بصورةٍ مؤلمة؛ على يد أجناسٍ من البشر طوَّقوا رقاب غيرهم ببعض معروف، فجعلوا منه مسمارًا كمسمار جحا، ومزارًا  يترددون عليه في كل حين، ويذكرون به عند كل موقف، و يمنُّون عليهم به، حتى أصابوهم بالسأم، وأدخلوهم في دوَّامةٍ من الندم؛ أن جعلوا لهم فسحةً و مجالا ليدقوا ذلك المسمار في جدار حياتهم.