المدينة المنورة - ماهر محمد بن عبدالوهاب

 

فضيلة الشيخ د. أحمد الحذيفي في خطبة الجمعة: لقد ابتدأ التأريخ بمقدمه صلى الله عليه وسلم إلى هذه المدينة الميمونة، التي أختارها الله من بين الدنيا له مهاجرًا ومستقرًا.

 

وبعد أن حمد الله تعالى بدأ خطبته بقوله: إخوة الإيمان: إن هذا الشهر المحرم هو مستهل السنة ومفتتحها، ومشرق شمسها ومطلعها، وإننا حين نستهل العام الهجري بشهر الله المحرم لتعود بنا الذاكرة إلى حادثة حولت بوصلة الحضارة وأدارت إليها وجه الزمان، ألا وهي حادثة الهجرة النبوية الميمونة، خطت تلك الخطوات النبوية فخطت قصة حضارة غيرت مجرى التاريخ، بل كانت مقدمة له حين أرخ المسلمون بها، وكأن ما قبلها قد التحف بظلام الجاهلية، أو غاب في تلافيف الزمان واختفى في مجاهله، فلا عجب أن يطرد بعدها التاريخ وتتسارع أحداثه.

 

وأكمل: لقد أرخ بها المسلمون منذ ريعان عمر هذه الأمة وبواكير نشأتها، فكان التأريخ بها من أسنى مفاخر هذه الأمة، وأسمى مظاهر تميزها عن سائر الأمم، لما فيه من إحياء لذكرى حادثة هجرة نبيهم، واعتزاز بهوية أمتهم وأصالتها، واتصال بجذورها الممتدة في أعماق التاريخ الإنساني؛ أما قصته -معاشر المؤمنين والمؤمنات- فإن الفاروق عمر رضي الله عنه، حين شاور الصحابة رضي الله عنهم في التأريخ -في حادثة من الحوادث زمن خلافته الراشدة- اتفقوا على أن يكون مبتدأ التأريخ من عام الهجرة النبوية، فعن سهل بن سعد قال: «ما عدوا من مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ولا من وفاته، ما عدوا إلا من مقدمه المدينة».

 

وبيّن فضيلته: وحادثة الهجرة وإن وقعت في ربيع الأول إلا أنهم أرخوا بالمحرم؛ لأن ابتداء العزم على الهجرة كان في المحرم الذي يلي حادثة بيعة العقبة الثانية التي وقعت في أثناء ذي الحجة من السنة الثالثة عشرة للبعثة النبوية، وتلك البيعة هي مقدمة الهجرة كما تذكر كتب السير ومدونات التاريخ، فكان أول هلال استهل بعد البيعة والعزم على الهجرة هو هلال المحرم، وفي قوله جل شانه: (من أول يوم) من قوله: (لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه) إشارة إلى صحة ما اتفق عليه الصحابة مع عمر، ذلك أن عام الهجرة هو الحين الذي عز فيه الإسلام وبسقت شجرته وارتفع مناره، وأشرقت شمسه وامتدت أطنابه وعمت أنواره.

 

وأضاف: لقد ابتدأ التأريخ بمقدمه صلى الله عليه وسلم إلى هذه المدينة الميمونة، والبقعة المباركة المصونة، التي اختارها الله من بين الدنيا له مهاجرًا ومستقرًا ومقامًا، حينما أطل عليها إطلالة الشمس من نافذة الأفق، ثم امتد ضياؤها بعد فبدد ظلام الوثنية، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء)؛ فتضوع بمقدمه مراحها، وتعطرت بهجرته أرواحها.

 

وأكمل فضيلته: ثم إن هذا اليوم الأغر من هذا الشهر المحرم يوم عظيم من أيام الله؛ فقد نجى الله فيه كليمه موسى عليه السلام وقومه، وأغرق فرعون ومن معه، وإن نبينا حين قدم المدينة من هجرته الميمونة وجدهم يصومونه، وذلك في يوم عاشوراء من السنة التي تلي قدومه إلى المدينة، أو أنهم كانوا يحسبون بحساب السنين الشمسية، فصادف يوم

عاشوراء بحسابهم اليوم الذي قدم فيه المصطفى صلى الله عليه وسلم المدينة، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله لما قدم المدينة وجدهم يصومون يوم عاشوراء، يقولون: هذا يوم عظيم، نجى الله فيه موسى، وأغرق آل فرعون، فصامه موسى شكرًا لله فنحن نصومه، فقال صلى الله عليه وسلم: (أنا أولى بموسى منهم) فصامه وأمر بصيامه؛ وكأن في ذلك الموقف الاتفاقي في مناسبة صيامهم يوم عاشوراء إلماحة لطيفة للنبي بحسن العقبى، كما كان منتهى أمر موسى عليه السلام مع فرعون، وإشارة خفية إلى صدق وعده جل وتقدس في مثل قوله: (إنا لننصر رسلنا والذين ءامنوا فى الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد).

 

واختتم الخطبة بقوله: فكم بين قصة نبينا صلى الله عليه وسلم مع قومه وحاله فى هجرته وبين قصة أخيه موسى عليه السلام مع فرعون وقومه، في كثير من فصول قصته وأحداثها من المناسبة والمشاكلة، فقد خرج موسى عليه السلام من تلك المدينة (خائفًا يترقب قال ربي نجني من القوم الظالمين) كما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة متوجهًا تلقاء المدينة طالبًا النجاء بدينه ورسالته من كفار مكة، فقد جرت السنن بذلك، قال ورقة بن نوفل للنبي صلى الله عليه وسلم بعد حادثة غار حراء: (ليتنى أكون حياً إذ يخرجك قومك)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أو مخرجي هم؟!) ، قال: (نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي)، وناله صلى الله عليه وسلم من صنوف البلاء من فرعون هذه الأمة أبي جهل وقومه ما يشبه حال موسى السلام مع فرعون مصر، ولذا كأن الله تعالى عناية بحبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم قدّر ذلك التوافق العجيب والتساوق الغريب في قصة صيامهم يوم عاشوراء ومناسبته بعد قدومه إلى المدينة ومفارقته مراتع صباه ومرابع قومه تسلية له، وتثبيتًا لفؤاده، كما وعده وعدًا حقًا، وتحقق ذلك الوعد الحق بأن أورثه مكة التي أخرج منها بعد استضعافه وأصحابه، حيث كانوا كما حكى الله عنهم بقوله: (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون)، كما أنه قال في شأن موسى عليه السلام وقومه: (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمت ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون)؛ فهكذا تدور عجلة الأيام وتتقلب تصاريف الزمان، لتكون العاقبة الحميدة لأهل التقوى والإيمان، وكم في ذلك من مواقف الاعتبار (فاعتبروا يا أولي الأبصار).