نوال عامر

كرّم الله الإنسان على سائر المخلوقات بالعقل الذي يميّز به طريق الرّشد من الغيّ ، ولم يتركه تائهًا يأكل ويشرب كما تأكل الأنعام ، بل أغدق عليه النعم التي يجدّف بها لصنع مستقبله ، والوصول إلى إنسانيته التي تكرّم بها ،( ولقد كرّمنا بني آدم ورزقناهم من البرّ والبحر وفضّلناهم على كثيرٍ ممّن خلقنا تفضيلا ) ، فمالي أراك أيّها الإنسان في حيرةٍ من أمرك ؟!

تارةً أراك مسيّرًا لأهوائك ، متحجّرًا في أفكارك ، فاترًا في همّتك ، وكأنّك نبتةٌ ذاوية توشك على السقوط .
وتارةً أراك متجاهلًا لشعلة الخير التي يرشدك إليها ضميرك الحيّ ، مقرصنًا لعقلك ، تائهًا في قراراتك رغم كلّ الإمكانات والنعم التي ترفل فيها .
كم رثيت اليوم لحالي وحالك بعد أن عدت من زيارة جمعيّة الأطفال المعوّقين في مدينتنا ، كانت زيارة قصيرة لم تتجاوز بضع ساعات إلا أنّها أيقظت كثيرًا من المعاني في داخلي .
تجوّلت فيها بناظري هنا وهناك ، وتأمّلت معاناة كلّ طفل وطفلة وقعت عيني عليهم ، فلم أشاهد إعاقتهم بقدر ما شاهدتُ ابتسامتهم البريئة، وقصة إنجازاتهم البسيطة ، وهم يسطّرونها بمقاومتهم وكفاحهم ، وقد تعايشوا بمصداقيّة مع إعاقتهم ، وحاربوا لأجل إبقاء إنسانيّتهم التي يعجز البعض منّا عن استحقاقها .
فجالت في ذاكرتي كثير من نماذج المعاقين الخارقين التي خلّد التاريخ أسماءهم في شتّى المجالات ، وأيقنتُ أنّ تلك النماذج ما أزهرت إلا حين آمنت أنّ بين كلّ عطاءٍ وعطاء جرعةً من البلاء ، و عرفتْ كيف تتعايش بفكرها ؛ فتشكر عند العطاء ، وتصبر عند البلاء ، دون أن تعرف طريقًا للتواني أو مكابدة الأحزان .
وحينها أخذتُ أتمتم بصوتٍ خافت قول رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام فيما رواه الترمذي :” من أصبح منكم آمنًا في سربه ، معافىً في جسده، عنده قوت يومه فكأنّما حيزت له الدنيا بحذافيرها ” فأخذت أحمد الله على تجدّد العافية ، وأعيد تصنيف الأمور بأنّ قيمة المرء مايحسن ، وأنّ أفكاره هي من تصنع ذاته .
و أنّ المعاق الحقيقي هو الذي يعيش بلا أمل ، وبلا هدف ، وبلا كرامةٍ أو إباء .

فامنح لنفسك قيمتها ، و اعتنِ بقلبك ، وارتقِ بأهدافك .
كن صاحب فكرٍ وبصيرة، انتظر بزوغ الشمس بعد أداء الفلاح كلّ صباح وأنت تلوّح بآمالك وأحلامك عاليًا .
تعلّم أن تصنع لنفسك أثرًا دون أن تجرح أو تظلم ، كن مصدر سلام كأولئك الأطفال الأبرياء ، كن رفيقًا هيّنًا ليّنًا بلسمًا للجراح ، وتذكّر نعم الله عليك ، وصنها بالحذر أن تكون متكبّرًا ظالمًا، أو تكون علقمًا يزيد الجرح عمقا .

اغرس لنفسك صالحًا ترجو به طيب الأثر ، كن طامحًا للمعالي مستشعرًا قول أبي القاسم الشابي :
ومن لايحبّ صعود الجبال
يعش أبد الدهر بين الحفر
أبارك في الناس أهل الطموح
ومن يستلذّ ركوب الخطر

فاجعل هذه اللحظة أوانًا لتزهر ، وتكون طاقة بذلٍ لا تنضب عند حدٍّ معيّن من الإمكانيات .
كن إنسانًا وكفى.