بقلم.. د/نجوى محمد الصاوي

خلال ٢٠ عاماً من دراسة وتدريب  وعمل مررت بقصص كثيرة إما حدثت مع مرضى أوسمعتها  من المرضى

منها ما رسخ في الذاكرة وثبت

إما لكمية الألم والحزن 

أوالطرافة والاستغراب

ومنها ما كان مؤثرًا للغاية إلى درجة أنها  أصبحت لي دروس مفيدة في الحياة.

قصتي هذه أحببت أن أسردها لما فيها  من عبرة 

اليوم أثناء خروجي من العيادة وجدت امرأة ضريرة تقريبا في الستين من عمرها مع ابنتها  تنتظر أمام إحدى العيادات 

فتذكرت أكثر قصة أبكتني وأنا في المرحلة التدريبية

(الامتياز)

تذكرت أم طارق كانت امرأة ضريرة في نهاية الخمسينات من عمرها كانت  مريضة ومنومة ترافقها ابنتها تدعى سارة

   أثناء مروري مع الطبيب المناوب في قسم تنويم الجراحة لأنها تعاني من غرغرينا في مشط القدم وقد تم تنظيف القدم وإزالة الجزء الملتهب

شد انتباهي برُّ سارة واهتمامها بوالدتها  وطريقة تعاملها معها بحب ومن قلب  وحرصها على معرفة كيفية العلاج  والمضاعفات للعلاج وتسأل عن أدق التفاصيل لمرض والدتها

أعطيت سارة رقم غرفة الطبيبات في المستشفى إذا احتاجت أي سؤال أو استفسار لوالدتها أن تتصل بي لأني كنت مناوبة قلت في نفسي ربما تخجل من الاتصال بالطبيب المناوب أثناء الليل

في  الصباح اتصلت سارة وأخبرتني أنها تريد أن تسالني شيئا 

ذهبت  غرفة والدتها بعد أن سلمت الحالات لزميلي

وكانت سارة محرجة وهي تحدثني

قالت  أن لديها اختبار مهم وأنها تدرس في الجامعة ولا تستطيع أن تترك والدتها لوحدها لأن نظرها ضعيف جدا وتريد فقط مرافق لها لمدة ساعتين  إلى أن تنتهي من اختبارها وتعود حالا

فقلت لها  سوف أطلب من ممرضة أن تكون معها وألا تقلق وخلال هذه المدة لن يحدث شي وقد مر الطبيب الاستشاري وطمنها على حالة والدتها 

فرحت سارة كثيرا وتجهزت على أن أجد لها ممرضة وبالفعل أحضرت ممرضة فتطمئنت وذهبت إلى الاختبار

في تلك المدة القصيرة اتصلت الممرضة علي وقالت إن رئيسة التمريض تريدها ولن تتأخر فقلت لها أنا سأكون مع المريضة وفعلا دخلت عند أم سارة وقلت لها سأكون معك قليلا  ولا تقلقي ولا تخجلي مني إذا أردتِ شيئا

شكرتني وابتسمت 

قلت لها ابنتك رائعة أتمنى أن تكون حياتها جميلة مثل جمال قلبها 

ضحكت ودمعت عينها بنفس الوقت مع تنهيدة وكأنها سرحت ثم قالت أين ابنتي 

ابنتي التي ولدتها وربيتها وتعبت عليها لم أرها منذ سنتين بعد أن انتقلت إلى المنطقة الشرقية مع زوجها لظروف عمله 

حتى اتصال لا تكلف نفسها 

أبنائي الثلاثة اثنان منهما يكملان دراستهما العليا خارج المملكة وأكبرهم تزوج ولا أراهم إلا بالمناسبات 

سارة ابنة زوجي من زوجته الثانية لقد توفت والدتها أثناء النفاس في تسمم دم حاد وأحضرها زوجي لي للعناية بها 

ما يؤلمني ويحرق قلبي أني لم أحن عليها وهي صغيرة كأم ولم أحبها وضميري دائما يعذبني

كنت أعاملها بقسوة وأضربها

كنت دائما أحرمها من الألعاب والحلويات كعقاب  لها وهي صغيرة جدا 

عقاب لأن زوجي تزوج علي ولم أعلم إلا عندما أحضر سارة لي 

كان الحقد يعمي قلبي 

ثم أخذت تبكي  وأبكتني معها

بعد ذلك قالت ابنتي بنفس العمر تقريبا  

كنت أدلل ابنتي عندما أصبحت في السنة الثانية من عمرها واشتري لها الألعاب والحلويات وتنظر سارة إليها بحسرة وعندما تقترب من ابنتي تضربها ابنتي وتأخذ أشياءها

كرهتها كثيرا وكانت مع ذلك حنونة ورقيقة عندما تجدني متعبة وهي في الخامسة من عمرها تحضر لي الماء وتلمسني وتحاول أن تحضنني وأنا أدفعها 

إلى أن جاء ذلك اليوم الذي قدره الله لكي أحن عليها وأحبها أكثر من أبنائي 

أذكر يومها مرضت كثيرا كان الأم في المرارة وكانت سارة في الثانية عشر من عمرها في سن المراهقة ولكنها كانت عاقلة وهادئة كالنسمة جميلة كالوردة بعكس ابنتي تماما

وكان أبنائي وقتها بعضهم يلعب بلعبة تسمى أتاري والآخر يحضر شريط فيديو العاب  وابنتي مع صديقتها في غرفتها  

زوجي كان مسافرا كالعادة لتجارته وكنت أتلوي من الألم وأبكي بشدة 

لم تتركني سارة تعتني بي وتمسح على بطني وتقرأ القرآن 

وذهبت لأخواتها الأولاد وكان أكبرهم في بداية الجامعة وأصغرهم بأول ثانوي كي يساعدوني في الاتصال بالإسعاف واسمعهم يقولون لا يوجد بها شي ربما أكلت كثيرا كالعادة وحدث لها مغص من كثرة الأكل

تألمت من ردهم كثيرا وبكيت بينما ذهبت سارة إلى جارتنا واستنجدت بها إلى أن أخذتني هي وزوجها للمستشفى  والحمد لله تمت العملية وقمت بالسلامة وأذكر أن الطبيب قال لي إن تأخرتِ قليلا لكان وضعك أسوأ 

عندما عدت للمنزل حضنت سارة بقوة وبكيت فكانت جدا سعيدة لأنها أول مرة تشعر بحضن الأم وعوضتها كل ما حرمتها منه من ملبس وألعاب وحلويات 

من يومها سارة ابنتي الغالية

وبعد أن فقدت نظري بسبب مرض السكر  منذ سنتين هي عيناي التي أرى بهما  

واستغفر دائما وأدعو ربي أن يغفر لي

لأني أشعر بأن ربي اقتص حقها مني

بعد أن أنهت حديثها كانت سارة قد وصلت وقبلت رأس أم طارق وبدون أن أشعر حضنتها وسألتها عن اختبارها 

ابتسمت وقالت الحمد الله يسره وسهله لي كثيرا  لأني أثق به أكثر 

خرجت  وأنا أمنع دموعي من الهطول  حتى لا يلاحظني أحد 

سألت عنها بعد فترة علمت أن سارة تزوجت من رجل فاضل ووضعه المادي جيد وأنها أخذت أم طارق عندها بعد وفاة أبو طارق وتقوم بالعناية بها ووضعت لها ممرضة ترعاها لأن سارة أصبحت تعمل بوظيفة مرموقة ولها مكانتها بالمجتمع

اختم قصتي بقوله تعالى في سورة الكهف ” وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا )صدق الله العظيم

ملاحظة القصة واقعية 

الأسماء غير حقيقية