مدير التحرير

العبادات والشرائع ذكرت في القرآن مُجملةً؛ ليبينها النبي صلى الله عليه وسلم، فبيّنها بأقواله وأفعاله وتقريراته، فمن السنة عرفنا كيف نصلي ونصوم ونزكي ونحج إلى غير ذلك من العبادات والمعاملات والأخلاق..

إن هذه الشريعة الحنيفية هي الشريعة الخاتمة، فلا شريعة بعدها، والتي لم يقتصر التكليف بالدخول فيها على قومٍ دون قومٍ؛ ولهذا هُيئ لها من أسباب الحفظ والصيانة ما يلائم عمومها الزماني والمكاني، وأُمدّت برافدين صافيين من منابع التشريع أحدهما القرآن الكريم المنزل بلفظه ومعناه من الله تعالى، والآخر السنة النبوية الطاهرة، وأهمية السنة النبوية، وضروريتها في حياة المسلم مما لا يتوقف فيه المتعلم، وقد تضافرت عليه براهين منها:

أولاً: النصوص القرآنية الموجبة لاتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخذ ما جاء به كقوله تعالى: (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ)، ولا يمكننا الأخذ بما جاء به، والانتهاء عما نهى عنه إلا من خلال سنته، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فالاشتغال بالسنة فرض كفاية.

ثانياً: الأحاديث المتضمنة لزوم اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وفرضية الاهتداء بهديه، وهي من التنوع والكثرة بحيث لا تقبل التشكيك، بل هناك أحاديث تضمّنت الترغيب الصريح في حفظ السنة، وأدائها بأمانةٍ وإتقانٍ كحديث زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله تعالى عنه أن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَبَلَّغَهَا، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرِ فَقِيهٍ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ».

ثالثاً: أن العبادات والشرائع ذكرت في القرآن مُجملةً؛ ليبينها النبي صلى الله عليه وسلم، فبيّنها بأقواله وأفعاله وتقريراته، فمن السنة عرفنا كيف نصلي ونصوم ونزكي ونحج إلى غير ذلك من العبادات والمعاملات والأخلاق، واحتياج المسلم إلى السنة لتبيِّن له القرآن منصوصٌ عليه في القرآن الكريم قال الله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)، وجرى عليه إجماع العلماء من الصحابة فمن بعدهم إلى اليوم، وهو إجماع قوليٌّ وعمليٌّ، فما زال العلماء والمفتون والقضاة من الصحابة وإلى اليوم يأخذون بتبيين السنة للقرآن الكريم، ويذكرون وجوب ذلك، ومع أن القرآن الكريم خُصّ بمزيّةِ حفظه بألفاظه، والإجماع على قطعية ثبوته، بحيث لا يتجاسر مسلمٌ على إنكار كلمةٍ منه، وهذه خصوصيّةٌ له من بين الكتب السماوية، فقد تكفّل الله تعالى بحفظه، فقال: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)، فلا يناله من التحريف والتبديل ما نال غيره من الكتب المنزلة التي استحفظها أحبار أهل الكتاب، فحرّفوا الكلم عن مواضعه، أما السنة فقد كانت لها وسيلة بقاء، وآلة تصفية ونقاء تتمثلان في الإسناد المتصل بالنبي صلى الله عليه وسلم، وقد هيأ الله للأمة من اتصال سندها بنبيها، وحفاظها على سننه ما لم يتهيأ لغيرها من الأمم، فقد ذكر العلماء أن الإسناد المتصل الصحيح من خصائص هذه الأمة، وبعناية العلماء بالإسناد من لدن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم تسنّى الفرز بين رواية العدول الثقات الضابطين، وبين روايات غيرهم، فامتازت السنة الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عما لم يثبت عنه مما رواه ضعيفٌ انتسبَ إلى هذا الشأن، وخذله سوء حفظه، واختلال ضبطه، فلم يلتحق بركب الحفّاظ المحتجّ بهم، أو ما يدسُّهُ الزنادقة؛ ليُشوّشوا بها على المسلمين، وما اختلقه أهل الفرق الضالة التي استماتت في وضع الأخبار الكاذبة؛ لتؤيد بها مناهجها الزائفة، لكنّ جهابذة الحديث تصدّوا لهذا كله، فلم يُوجد راوٍ من الرواة إلا ولهم فيه أقوالٌ فاحصةٌ تُوجبُ قبول روايته، أو ردّها، وبهذا أحقّوا الحق، وأبطلوا الباطل.

وأخيراً: هناك وقفةٌ لا بد منها وهي التأكيد على أن معرفة المقبول والمردود، وما يُجزمُ به وما يُتردّدُ فيه من الأحاديث إنما هو وظيفة المحدثين، وقد استقرّت قواعده، وثبتت أركانه، وأغلبه يرجع إلى تتبع سير وأحوال الرواة الذين عاشوا في القرنين الأول والثاني، وتولى ذلك من عايشهم، وسبر أحوالهم من النّقاد والجهابذة، والناس عالةٌ عليهم في هذا؛ فهو علمٌ لا يمكن للمتأخرين الوقوف عليه إلا من خلال ما نُقل لهم، وهو أولى العلوم بأن تحترم قواعده التي قرّرها المشتغلون بها، وأن لا يتطفّل عليها من هو بمعزلٍ عن الاشتغال بها، وقد تلّقت الأمة صحيحي البخاري ومسلم بالقبول، وانتقاد بعض المحدثين لأشياء فيهما معارض بأرجحية حكمهما على حكم المنتقد، والعجب ممن يُسلِّمُ لأصحاب التخصصات الحيويّة من طبٍّ وهندسةٍ ونحوها، ولا يعترض عليهم فيما أطبقوا عليه، وينقاد إلى ما يقول له آحادهم فيها، ويخوض غمار الكلام في الشرعيات بكل جسارةٍ واندفاعٍ، ويرمي دبر أذنه ما تقرّر لدى علمائها!.