مدير التحرير

قبل شهر تقريباً كتب فهد عافت مقالاً عن محمد المخزنجي. لم يذكرني المقال بكاتب القصة العبقري الذي تضيء في عقلي أنوار بهية حين أرى اسمه، لكنه ذكرني بأن لي مدة لم أبحث عن كتبه. دفعني ذلك لقراءة مجموعته الصادرة في العام 2018 صياد النسيم.

من النادر أن تجد كاتب قصة قصيرة يدهشك في كل مرة، في كل قصة. من النادر أن يحافظ كاتب على مستواه في كل ما يكتب. هذا حالي مع محمد المخزنجي. الرهافة، الحس الإنساني العالي، الأفكار المبدعة التي تغوص في أعماقك لتخرج منها أكرم ما في البشر، تطلق فيك الرأفة، الرحمة، الوجع النبيل.

قصص المخزنجي لا تدفعك للغضب والسخط، على العكس، تبعث فيك أجمل ما فيك. تجعلك تفكر بهدوء، كم هو الإنسان مخلوق جميل، كم أن المآسي يمكنها أن تكون محرضاً على التشبث بالحياة، والضعف دافعاً للقوة، والألم مثيراً أحياناً للضحك. الأناقة في ردود الفعل، هذا ما أشعر به وما يجعلني أؤمن أن الإنسان قادر عليه هو ما تتركه في من أثر قصص الكاتب العظيم محمد المخزنجي.

كي أذكر أمثلة من مجموعته صياد النسيم، هناك الطباخ الماهر الذي دفعه لممارسة هذه الهواية أنه صادف شخصاً مات كل أفراد أسرته في لحظة وترك كل شيء وراءه وانتقل إلى مدينة أخرى، يصنع الفلافل بكل إتقان، هذه الفلافل هي التي أنقذته من حزن مدمر. وهي التي جعلت الراوي يؤمن أن الطبخ له هذه القدرة على التغلب على الأسى، الطبخ خَلْق وفن وحياة.

قصة أخرى تحكي عن الأم التي عاشت في خدمة أولادها، وبعد أن ماتت اكتشف أولادها أنهم لم يسعدوها مرة بأن يأخذوها للنزهة بعيداً عن حياتها الجافة والمكرسة لهم، فقرروا أن يأخذوها في نزهة وهي في نعشها قبل أن تدفن.

ثم هناك صياد النسيم الذي بنى ماسورة كي يصيد بها النسيم ليدخله إلى بيته القبلي الذي كان كالفرن، ثم يفاجأ بلص يحشر في الماسورة ويكاد يموت من الاختناق، يحن عليه ويساعده في الخروج لكنه في النهاية يسد الماسورة ويعود للعيش في الصهد والاختناق.

هذه الأفكار العجيبة، بعض مما يقصه علينا المخزنجي، بطريقة لا تشبه أحداً، ولا يمكن لأحد أن يختصرها أو يحكيها غيره، بأسلوبه الذي يشبه أسلوب ساحر الزجاج الذي ذكره في إحدى القصص. أسلوب شفاف، مرهف. يجعلك تضحك، ترضى، تفكر، تحزن، تبتسم. تلمع في رأسك فكرة، أنك اكتشفت سر الحياة. لا تفهمها، لكنك تحبها، أنك إنسان، وستظل تحاول وتقاوم وتعيش وتبحث عن الفرح حتى في أقسى لحظات الحزن.

تحية لأعظم كاتب قصة في وقتنا الحالي. محمد المخزنجي.