عادل البشراوي

دائما مانحكم على الأمور من حيث نحن. نتصرف وكأن العالم ولد فجأة دون إرهاصات ومقدمات فرضت ظروفا أفضت بنا أخيرا لما نحن عليه اليوم. والحال أن الكون في تشكل مستمر لا يهدأ ولا يستقر.

قليل منا من يتوقف قليلا ليتساءل عن البدايات، كيف بدأنا وإلى أي شأن صرنا.

اللغات وهي أحد أهم تجليات ثقافات الشعوب وقد عجنتها وشكلتها يوميات البشر حسب شروط محيطهم المناخي والغذائي والأساليب التفاعلية التي تعاطوا معها على مستوياتهم الإجتماعية والروحية. رغم ذلك، فالبعض يريد تبسيط أسباب تباينها بين الشعوب فيجعلها نتيجة نقمة الخالق سبحانه على عباده الذين أفسدوا في الأرض وشيدوا أبنية شاهقة ليقتربوا منه فيطلعون على بعض أسراره، وهو ما أثار غضبه وعزم على الإنتقام منهم بأن أمر ألسنتهم فتغيرت لتبدأ عندها مرحلة تباين اللغات.

هذه ليست دعابة، بل رواية توراتية تبرر أسباب اختلاف الألسنة، حيث الإدعاء بأن لغة آدم حين الخلق الأول كانت العبرية واستمر الوضع كذلك إلى أن جاءت مشيئة الله فأمر الألسنة فتغيرت (1).

ولكي لا نتهم بالعداء للسامية، فمن الإنصاف القول بأن بين المسلمين من يصر على أن لغة آدم كانت العربية، وفي التراث الإسلامي الروائي تفسيرات أسطورية لا تقل غرابة عن تلك اليهودية. تصفحوا الطبري وابن الأثير لتروا العجب العجاب.

رواية المشيئة الإلهية لتباين الألسنة كانت أطروحة اليهود قبل الميلاد بخمسة قرون، وهكذا استمرت لدى بعض سلفييهم. وكذلك بقيت عقلية بعض المسلمين مصرة على عروبية آدم. بل إن فصيل منهم من يود القول بأن العربية كانت لغة المخاطبة بين الله والملائكة، وبكلام آخر، هي لغة الله.

والأمر لا يقتصر على اليهود والعرب، فلدى أغلب الشعوب روايات تفيد بالخصوصية التفضيلية لهم على باقي الخلق. لعله تعبير عن رغبة هذه الشعوب لأن تكون هوياتها هي الأنقى والأصفى وأنها المعين العذب الذي ترتقي به شأنا بين الأمم ليتم لهم القول بأنهم شعب الله المختار. وعبارة “شعب الله المختار” وإن خص بها اليهود أنفسهم، إلا أنها شعار مبطن تتغنى به أغلب الأمم مهما تواضعت وزاد تنسكها.

في معرض الحديث عن تغير الهويات والثقافات، يجدر بنا التأكيد بأن اللغة وكما أسلفنا هي أنصع تجليات ثقافات الشعوب وهوياتهم، وكما أن الثقافة تتأثر وتتغير باحتكاكها بثقافات مجاورة، فإن اللغة هي الأخرى يجري عليها مايجري على الثقافة حيث تتأثر الشعوب في معاملاتها التجارية مع جوارها فتكتسب منهم المفردات والعبارات وتستلهم من أساطير تراثهم أبعادا تتغذى بها روحانياتهم وتبتعد بهم شياء فشيئا نحو ثقافات وهويات جديدة. وقد تتأسس لعموم الشعوب المتأثرة بالإحتكاك لاحقا هوية جامعة تجعل منهم كيانا ثقافيا واحدا.

*التأثيرات الروحانية*

للتأثيرات الروحانية أبعادا أكثر نفاذا في الوجدان الإنساني تملي على الفرد انقيادا تلقائيا للذوبان في الهوية، بحيث يجد في انقياده لذة السمو والشعور بالأمان، وبعيدا عن ماهية اللذة إن كانت صحيحة أو مصطنعة فهي في النهاية حالة سايكولوجية يعيشها الفرد متأثرا بمحيطه. وهي واقعا استجابة غرائزية تميز بها البشر فأضحت بعضا من وشائج الروح التواقة للإنسجام والخضوع والتماهي مع قوى غير محسوسة ولا مرأية وأحيانا خارقة للطبيعة.

من حيث ماهيتها، فالروحانية تعتبر من أكثر أسرار البشر جدلا. وللآن لا أحد يستطيع الجزم بطبيعتها وعلاقتها البايولوجية الفيسيولوجية في أجهزة الجسد وتحديدا الدماغ، والكيفية التي يتم من خلالها انبثاق حالة الشعور بالروحانية لدى الفرد. ومن المعروف أنها ليست ثابتة بل تتأثر بالظروف المعاشة، فأحيانا يعيش الفرد أجواء تجتاحه فيها سيالات من المد الروحاني الجياش، بينما تتوارى وتخفت أحيانا أخرى. ما يعني أنها تتأتى استجابة لتفاعلات هرمونية في كيمياء الدماغ.

أما تاريخ بروزها لدى البشر، فهو سر آخر يصعب تحديده. لكن الأشد صعوبة هو تلمس صور تطوره لديهم. وفي هذا الشأن يقول Andre Leroi-Gourhan و Annette Michelson بأن بروز المظاهر الدينية بدأت لدى البشر الحديث Homo Sapiens قبل 30 ألف سنة (2). إلا أن هذا التاريخ نفسه تذكره Barbara Tadlock لأول مظاهر بروز الشامانية (3)Shamanism، وكما نعلم فإن الشامانية ليست سوى مظهر نضوج نسبي للروحانية، أي أن مقدماتها لابد وأنها بدأت قبل هذه الفترة.

وهو مايتوضح لدينا عند مراقبة آراء بعض العلماء الذين درسوا مواقع آركيولوجية قديمة، وتحديدا ظاهرة دفن الموتى التي عبروا عنها بـ (الطقوس الجنائزية)، حيث اعتبروا هذه الآثار صورا أولية للروحانية، وأنها تمت استجابة للوازع الوجداني الغرائزي لديهم. ومن هذا المنطلق يذهب James Harrod و Vincent W. Fallio إلى القول بأن أول بروز ملحوظ للطقوس الجنائزية ظهرت لدى إنسان النيانديرتال Homo Neanderthalensis قبل حوالي 300 ألف سنة (4). هذا رغم التشكيك الذي واجهه الطرح من حيث أن وقائع الدفن هذه قد يكون منشأها مجرد إخفاء جثة الميت خوفا من أن يتم التهامها من قبل الضواري.

إضافة إلى دلائل تفيد باختلاف طفيف في التركيب التشريحي لدماغ إنسان النيانديتال عنه في الإنسان الحديث الذي تميز بزيادة في حجم القشرة الخارجية في الدماغ بحسب عالم تطور الدماغ البروفيسور سيرجي سافيلييف Sergey Savelyev (5) وأن هذا التغير قد يكون سببا في ثورة الوعي التي تمظهرت على شكل رسوم ومنحوتات فنية يبرز فيها الجانب الإبداعي، بينما اقتصرت منجزات النيانديرتال على صنع أدوات الصيد والإحتياجات اليومية التي لا تصنف في خانة الإبداع، بل مجرد استجابة للحاجة.

مايهمنا هنا هو إثبات قدم النزعة والغريزة الروحانية للبشر وإن عبر سلالات مختلفة، وهو مايفتح باب النقاش في حقيقة جواز فصل المسار التطوري لهذه السلالات المتعاقبة والمتجاورة أحيانا والتي كانت غالبا ما تتعايش فيحدث بينها احتكاكات تشكل كوة لانتقال المعارف. ولكن هذا شأن آخر لا نود الإسهاب فيه.

إذا فالدافع الروحاني الذي تطور عبر مراحل طويلة في حياة البشر إلى أن تبلور أخيرا بظهور الشامانية، وهي روحانية تتعاطى مع جانب تماهي الروح البشرية مع الطبيعة، والتي أعقبها ظهور الأديان متعددة الآلهة ومن ثم الموحدة كتتويج أخير لتطور الغريزة الروحية وبروزها كعنصر مهم في توفير الأجواء الممهدة لتغيير الهويات التي نحن بصدد مناقشته.

*التأثيرات السياسية*

السياسة، في المقلب الآخر، لها أذرع قوية للتأثير على تغيير الهوية، وحكايا التاريخ تروي لنا فصولا ممتدة منذ قيام الحضارات حين تأسس للسياسة قوانين ناظمة لإدارة المؤسسات الإجتماعية والزراعية والدينية والتجارية والحرب، وتحديدا في حالات الغزو والتوسع لاحتلال الأقاليم، حيث تتم السيطرة على الشجر والحجر والأنفس.
ويتم تمديد الرقع الإدارية بحيث تشمل المناطق الملتحقة حديثا بسلطة الكيان السياسي المحتل، وما يصحبه من إنفاذ القوانين الإدارية على سكان المناطق الجديدة وإرضاخهم للعمل وفق القوانين والإنخراط في الأنشطة الثقافية لدولة الإحتلال، وفرض لغات وأعياد رسمية وممارسة طقوس دينية عادة ماتفرض من قبل الحاكم لتأكيد هوية الدولة وبناء دعائم تشجع على عصبية الإنتماء.

وفي هذا الصدد فهناك تشابه لأنظمة الدولة عبر عصور التاريخ، ولكنها تختلف في درجات سطوتها لفرض الهوية وفي أدواتها بحسب هيكلية وطبيعة آيديولوجية كيان الدولة. وقد لوحظ تميز كيانات الحضارات القديمة التي تدين بتعدد الآلهة بامتلاكها سماحية جيدة نسبيا في استيعاب عقائد الأقليات المنضوية تحت جناح الدولة. بينما أبدت السلطات التي اعتنقت عقائد موحدة عدوانية شديدة للأقليات الدينية، وفي بعض الأحيان انتهجت سياسات الطرد والإحلال والتطهير العرقي. وهي سياسات لم تتعفف عنها الحضارات القديمة ولكنها لم تكن تتذرع بدواع دينية للقيام بها.

أي أن السياسة بدأت في مرحلة ما في توظيف الدين لبلوغ مآربها، وهو شأن وجدنا مفاعيله في النزاعات المختلفة التي دارت بين الإمبراطورية الرومانية وبعض رموز المسيحية الذين واجهتهم واستغلت مجاميع مسكونية لمحاججتهم وتجريدهم من رتبهم الكنسية، كمجمع نيقيا المسكوني عام 325م. هذه المواجهات التي كانت في ظاهرها مبنية على أسس فهم طبيعة المسيح اللاهوتية والناسوتية، إلا أن نتائجها على الأرض أشعلت حروبا طاحنة بين روما من جهة، وبين مناوئيها في أوروبا والشام وشمال إفريقيا، وكانت في المضمون مجرد فرض هوية ثقافية محددة تجدها روما عنوانا مناسبا لهيمنتها.

وكذلك كان الأمر في الإسلام، حيث تقاتلت الممالك الإسلامية رافعة لواءات دينية متعارضة، استغلت فيها شعارات الثأر وتصحيح الدين وإرجاع الحق لأصحابه، وأحيانا على أفهام فلسفية محضة، كفتنة خلق القرآن. بينما الأصل في أغلب هذه المواجهات هو السيطرة والملك. ونلاحظ عند قراءتنا للتاريخ البراغماتية الشديدة لدى بعض الحكام في تنقلهم بين المذاهب عند الحاجة وما يتبعه ذلك من حروب دموية يذهب فيها عشرات الآلاف بين قتلى وجرحى ومهجرين.

أما أكبر ماتنتجه هذه المواجهات فهو تغيير الهوية، وهو غاية مرادنا في النقاش. فبمجرد إجتياح أرض أو تغير سلطان له توجهات سياسية أو آيديولوجية معينة، يقوم بفرض قوانينه وترسيم معالم معتقده وتغيير مناهج التعليم التي قد تتضمن فرض لغة مغايرة للغة سكان البلد. ومهما تحلى الحاكم الجديد بالسماحة والحلم تجاه الشعب، فإن مفاعيل مناهج التعليم سوف يكون لها تأثيرها الحاسم خلال أجيال قليلة.

ولعل أفضل مثال نستطيع ذكره في السياق هو ما جرى في مصر، فعند دخولها من قبل عمرو بن العاص عام 21هـ كان أهلها الأقباط لا يتكلمون العربية ولا يفهمونها، وكان أغلبهم يدين بالمسيحية القبطية.

إلا أن تعاقب الممالك والدول الإسلامية التي حكمتها والتي فرض بعضها العربية كلغة رسمية للدولة، ساهم في تراجع اللغة والدين الأصليين بحيث أصبح القبط المسيحيون فيها أقلية اليوم، وتعرضت اللغة القبطية إلى شبه تلاش في القرن العشرين. بينما كان أغلب القبط وحتى فترة الحروب الصليبية قبل أقل من ٩٠٠ سنة محافظون على دينهم ولغتهم. والحال لا يختلف كثيرا لدى الأمازيغ في دول المغرب العربي وكذلك الأمر في الشام وأجزاء من العراق.

ومع ذلك فهناك مفارقة تذكر في السياق، فأراضي فارس التي دخلها الإسلام في نفس العام التي تم فيه دخول مصر ظلت محافظة على لغتها وثقافتها الفارسية حتى يومنا هذا. والمفارقة تزداد أهمية عندما نتفكر في أن المصري القبطي المسيحي والشامي السرياني اليوم يعدان نفسيهما عربا فيتلوان لامية امروء القيس ويعتبرانها جزء من تراثيهما الثقافي، بينما يتمسك الفارسي المسلم بفارسيته، وقد لا يحفظ شطرا واحدا من بيت لقصيدة عربية، حاله في هذا حال الهندي والإندونيسي والأوزبكي المسلمين. لماذا؟

لأن ظروف تغير الهويات تختلف باختلاف أنظمة الحكم وهويات الحكام وآيديولوجياتهم والسبل التي يتبعونها في فرض الهيمنة.

بقي أن نتخيل لو أن مؤسسي جمهورية باكستان عام 1947 اختاروا العربية كلغة الجمهورية الرسمية من بين الثلاث لغات المقترحة وهي العربية والفارسية والأوردية، فهل كانت الباكستان اليوم هي الدولة العربية رقم 23؟

عادل البشراوي
باحث في علم الإنسان القديم