بقلم .. سالم جيلان أبويزي

الأحداث المتعاقبة في حياة البشر تُسفر عن قصص ومآسي أشبه بالروايات والحكايات الأسطورية فقد يكون لها وقع وتأثير كبيرين على من يعيشون تلك الأحداث… الحوادث والفواجع والكوارث الطبيعية لها ضحايا يذهبون ويغادرون هذه الحياة وتقع المأساة على أسرهم وذويهم… في الأوساط الإسلامية اعتاد الأغلبية منهم على تقبل أقدار الله والرضا بما كتبه الله بنفوسٍ مطمئنة صابرة محتسبة راجيةً ماعند الله وإن خالط ذلك الأمر بعض التسخط في أول المصاب من البعض فما يلبث المسلم أن يعود إلى الله ويرضى بما حدث والمؤمن هو من يثبت ويتقبل أمر الله مع الصدمة الأولى.

هنا أسرد رواية حقيقية عشت تفاصيلها ووقائعها وشاهدت حجم الألم الذي تجرعته “بطلة الرواية ” فهي قد عاشت سنوات في كنف جدها وجدتها لأمها يتيمة الأب لم تعرف أباها ولم تهنأ بالعيش معه أو تعاصره على الأقل منذ سنواتها الدراسية في المرحلة الابتدائية والتي تعتبر مراحل تأسيسية في حياة كل طفل و طفلة يبدأ منها البناء وتكوين العلاقة الأبوية الحميمية بين مراجعة دروس وهدايا نجاح.. عاشت هذه الفتاة حياة عادية جدًا بمقومات بسيطة في ظل وجود جزء من راتب والدها التقاعدي رحمه الله فهي وشقيقاتها يكونون من الزوجة الثانية لوالدها ولذلك يتقاسمون المعاش التقاعدي مع الأم الأخرى وأبنائها ووالد أمها يعيش الكفاف على قدر الحال وفي ظروف معيشية أشبه بالصعبة ودون اليُسر والأمور بفضل الله وتيسيره تسير.

عندما وصلت للسنة الأخيرة في المرحلة الثانوية وقبل التخرج تقدم لها شاب في مقتبل العمر والداه حالهما ميسور وأمورهما المالية ممتازة ورغبا في تزويجه مبكرًا واختاراها لأخلاقها وجمالها من شدة حبهما لولدهما فوافقت على مضض لصغر سن الفتاة مشترطةً هي وأمها إكمال دراستها الجامعية وقبل ذلك لا يتم الفرح والزواج إلا بعد التخرج من الثانوية فقبل الزوج وأهله ذلك رغبةً في البنت وإرضاءً لها… تسارعت الأيام وتمت مراسم الزفاف وانتقلت “اليتيمة” لبيت زوجها لتبدأ مرحلة جديدة من مراحل حياتها وتنتقل لعالم آخر تملؤه الأمنيات في سعادةٍ عامرة وآمال سقفها عالٍ تنسى معها سنوات اليُتم يحدوها الأمل بتجديد لحظات الحياة القادمة لتغادر حرمان الأبوة لأحضان الزوج ليملأ حولها كل الأماكن التي كانت خالية فلا أب حي ولا أخ قريب حولها.

بدأت مشوارها في حياة الزوجية سافرت لإندونيسيا ثم تركيا ودبي ونثرت الفرح في الأجواء وأصبح العالم الفسيح لا يتسع لكمية السعادة في حياتها وحملت في بطنها أول جنين لتكتمل بينها وبين زوجها منظومة الفرح ويدخل معهما شريك استراتيجي مع انطلاقة حياتهما الجديدة لتزداد السعادة ليس بينهما فحسب بل في عائلتيهما جميعًا وبعد مرور تسعة أشهر جاء الضيف الجديد وكان مولودًا ذكرًا أفرحها قدومه وقد اتفقا على تسميته بجده لوالده فاستحوذ على العقول وسلب القلوب مكانةً وحبًا بين الجميع.

طرأت تغيرات رائعة في حياتها بعد المولود فقد حصل الزوج على وظيفة جديدة في موقعٍ حيوي وهام مما رفع من مكانته الاجتماعية وساهم في توسع علاقاته خارج محيط مدينته وأصبحت حياتهما أكثر تنظيمًا وترتيبًا فعمل زوجها في نفس المدينة التي تدرس فيها الطب ووالدة زوجها وشقيقاته يشاركاها العناية والاهتمام بطفلها ويحيطوه بالعطف والحنان وحُسن الرعاية في حضورها وغيابها مما زاد اندماجها معهم والاشتراك في كل تفاصيل الحياة في الحل والترحال داخل المنطقة وخارجها… توالت الأيام وتتابعت الليالي بالمزيد من اللحظات الجميلة في تعايش “اليتيمة” مع زوجها وأهله.

عامان وأكثر عاشت فيها بطلة الرواية حكايات من الفرح والسرور نسيت معها كل معاناة السنين الماضية وتناست الحرمان حتى شعرت بالأمان وأشعرت به شقيقاتها ووالدتها وكل من يهتم لأمرها… كأن ساعات الفرح أقصر من فترات الأتراح وأوقات البهجة تتقازم عند أزمنة الحزن فقد حدثت فاجعة ذات مساء ومع الاستعداد لعودة المدارس بعد انقضاء إجازة صيفية مختلفة في المتعة والمرح كان لها وقع كارثي فالمفاجأة أقوى من هذه الشابة المسكينة وهول المصيبة فوق الاحتمال فبينما كانت مذ دقائق معدودة تتبادل الحديث مع بعلها في هاتفه المحمول وتستعجل حضوره وتستقبل عبارات الحب وقبلات العشق والغرام ولهًا وشوقًا للقائها بعد ساعات من الدوام تصلها الأنباء بتعرضه لحادثٍ مروري مروع على بعد مسافة قصيرة من بيته مما استدعى نقله للمستشفى على الفور وبين تضارب الأخبار عن مدى خطورة الإصابة من عدمها يجيء الخبر الفاجع بأن الزوج العشريني فارق الحياة وترك اليتيمة وحيدة في غياهب الدنيا… فأمست اليتيمة أمًا لطفلها اليتيم.

هي الحياة كما عهدناها وعرفها الجميع لا تتوقف لموت أحد أو حياة آخر ولكن هناك أشخاص يموتون فيتركون فراغًا كبيرًا وجرحًا غائرًا بعد وفاتهم وتبقى ذكرياتهم عالقة في الأذهان وتؤلب الأحزان في قلوب الأحياء على فراق الأموات.. وتبقى هذه الفتاة اليتيمة مع ولدها اليتيم الذي لم يتجاوز الثالثة من عمره دون أب حاله في ذلك حال والدته التي عاشت دون أب سنوات وسنوات.

هذه اليتيمة وقصتها الحزينة في سطور كتبتها متجاوزًا بعض الأحداث التي مرت بها متعمدًا إما لكونها لم تؤثر في سير حياتها أو لتعلقها بأقارب وقريبات لا أرغب في سرد تفاصيل عنهم وقد يكون لهم مساحات قادمة في كتابة الرواية كاملة وطباعتها في قادم الأيام.

✍ سالم جيلان أبويز