بقلم... جواهر الحارثي

 

يعتقد كثير من الناس أن بعض الثقافات الفكرية هي من مظاهر الترف أو الذوق الشخصي، ويميلون إلى التعامل مع الأمور الحياتية كمسلمات للعادات والتقاليد وما تعارفت عليه المجتمعات؛ حتى تأتي المواقف التي تكشف لنا عن أصالة تلك الثقافات ومدى الحاجة الماسة إليها؛

كشفت لنا جائحة فيروس كورونا المستجد COVID-19 عن أهمية الإلتزام بالمسافات المنظّمة للأمن الإنساني حسب أولوياته، فهو مطلب لتحقيق النهضة الحضارية على المستوى الشخصي والمجتمعي؛ يهتم بالإنسان من جميع جوانبه، وفي هذه المرحلة تحديدًا الموسومة بفيروس كورونا المستجد COVID-19 كان الأمن البيئي على هرم احتياجات الأمن الإنساني لحماية الإنسان من أضرار البيئة التي قد تنشأ من خلال الممارسات الخاطئة له دون وعي بذلك، ثم إن توفر الأمن البيئي في هذه المرحلة كفيل بإذن الله تعالى بتحقيق الأمن الصحي وباقي مجالات الأمن الإنساني؛ ولا نقصد بالمسافات هنا المسافة المعنوية أو الإنسانية بل نتحدث عن المسافة المادية المحسوسة التي تتحكم بشكل كبير في التقارب الفكري الذي يُعد المحور المركزي لهذا المقال، فالممارسات الخاطئة التي قد تصدر من الأفراد في التعاملات المجتمعية بحاجة إلى تنمية إنسانية تمكنهم من التعامل مع متغيرات الحياة بشكل أكثر فاعلية؛ 

ثقافة التباعد الإجتماعي التي خطفت الأنظار خلال هذه المرحلة ليست بحديثة أو وليدة الجائحة، بل هي ثقافة أصيلة تنطلق من علم لغة الجسد التي كشفت الدراسات بأن 55% من الاتصال بالآخرين يتحقق من خلال لغة الجسد و 38% في نبرة الصوت و7% فقط في الكلمة التي يعكِف عليها كثير من الأفراد لإعدادها؛ وبذلك تكون لغة الجسد “اللغة الصامتة” من أهم وسائل الإتصال الفعال، لاسيما في الحوار الذي يعد من أهم دوافع التقارب الجسدي من وجهة نظر الثقافة النمطية التي تفتقد لأسس الحوار الناجح مما ينشأ عن ذلك تصادم في وجهات النظر تبدأ باختلافات ثم تنتهي بالخلافات؛ كما أثبتت دراسات لغة الجسد أن وجود مسافات محسوسة ومقدرة بين الأطراف يعمل على تعزيز ذلك الإتصال ونجاح أهدافه، وكان (إدوارد تي هال) وهو عالم إنساني أمريكي أول من قدم فكرة المساحة الشخصية التي يعني بها الدائرة الخاصة بنوع العلاقة بين الطرف والطرف الآخر وقُسّمت تلك المسافة الى أربع مناطق مختلفة تتمثل في المسافة الحميمية الخاصة بالعلاقات الأسرية غالبًا وهي تصل الى 46سم ثم تأتي بعد ذلك مسافة الصداقة والتي تمتد الى 122سم بمعدل 4 أقدام وهي مخصصة للأصدقاء والزملاء ثم تزيد المسافة تدريجيًا لتصبح 1.2 م عن الطرف الآخر أي ما يتراوح بين 4 الى 8 أقدام تقريبًا وهي المسافة الإجتماعية علميًا والمقدرة حاليًا بـ 6 أقدام للتباعد الإجتماعي خلال جائحة كورونا وما زاد عن ذلك فهو للمسافة العامة المتمثلة في الاتصال الجماهيري غالبًا؛

إن ما تجدر الإشارة إليه أن التباعد الإجتماعي ليس ترفًا بل ضرورة حضارية أثارتها المرحلة وفعلتها الجهات المختصة لتمكين أفراد المجتمع من حقوقهم الإنسانية وتحصينهم من تهديدات المتغيرات الحياتية المتسارعة. 

مسك الختام:

إذا تعاملنا مع التباعد الإجتماعي كثقافة أصيلة تستلزم استمراريتها لاستدامة التقارب الفكري بشكل تلقائي من خلال الرقابة الذاتية، فإننا بذلك سنصل إلى أمن إنساني بكل مقوماته؛ ولا شك أن ذلك مطلب كل فرد يطمح لحياة هانئة يسودها الأمن والنظام والاستقرار في رحاب وجود أولى بالوجود.