بقلم /جواهر الحارثي

(أن تعبد الله كأنك تراه) على المستوى المعرفي نستطيع القول بأن جميع المجتمعات لديها المعرفة التامة بالقيم والمبادئ التشريعية كمعلومات أصيلة، بل وتجد أفرادها يرددونها بشكل دائم ويناضلون كذلك من أجلها، لكن لا نستطيع أن نجزم بأن جميع أفرادها يمتثلونها، أو لديهم الوعي التام بمضامينها، ولربما هناك من يترجمها وفق معطيات الحياة بكل بساطة، بالرغم من عمق أثرها وتأثيرها.

ما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعريف الإحسان (أن تعبد الله كأنك تراه) هو منطلق القيم الدافعة للأفراد والمجتمعات، والتي تنشأ بالرقابة الذاتية أولا، وتهذيب النفس على مكارم الأخلاق دون الحاجة إلى رقابة خارجية، أو الأخذ في الاعتبار هيمنة المصالح المتبادلة، ولعل تمام القيم الأخلاقية وأخواتها، في الوقوف على مصادر ها والأخذ بها كما جاءت؛

ولكن متى يبلغ البنيان يوما تمامه؟ 

القلق على نضج وتمام أي بنيان هو محور اهتمام الأجيال على مر العصور. 

تفشت بين المجتمعات ثقافات متعددة بتأثير العولمة الاجتماعية والثقافية، وتمددها عبر قنوات التواصل الاجتماعي التي لا مفر منها، وغزت تلك التفافات قيم المجتمعات ومبادئها بشكل خفي، فأصبحت أقل صلابة، وأكثر تفككا على إثر مجاراة الثقافات الأخرى، وحينما تشعر تلك المجتمعات باختلال في توازنها واقترابها من حافة السقوط، يحدث عندها الارتباك والتشتت، فتتوقف بشكل مفاجئ قد يؤدي إلى سقوط أسرع، وقد تتخذ حينها قرارات طارئة في التراجع إلى الخلف لاستدراك الأخطاء التي أدت بها للهاوية، دون التركيز على الأسباب الرئيسة، فتارة تتجه لمراجعة خططها الاستراتيجية، وتارة أخرى توجه أصابع الاتهام بالتقصير إلى المنفذين والمراقبين لتلك الخطط، ولربما تكبدت خسائر أخرى تزيد من تشتتها أو تؤدي بها إلى الانهيار؛

وقد يغيب عن تلك المجتمعات أحيانا التركيز على لبنة البناء الأولى والتي تتمثل في صناعة الأفراد وتوكيدهم، وترسيخ قيم مجتمعاتهم ومبادئها بشكل أكثر عمقا وتماسكا، وبما يضمن لها كذلك الثبات والصمود أمام التحديات مهما تواترت عليها الثقافات الأخرى. 

عندما تحرص المجتمعات على توطين القيم في جميع التعاملات مع الواجبات والمسؤوليات والعلاقات المتنوعة سواء على المستوى الشخصي أو المهني، بمصداقية عالية ستتحقق في أفرادها قيم دافعة بشكل تلقائي. وتنشأ بينهما علاقة طردية فكلما زاد توطين المجتمعات للقيم كلما زاد تمسك الأفراد بها، والعمل بها بدوافع ذاتية مؤمنة بثمارها من منطلق التوجيه النبوي (أن تعبد الله كأنك تراه)، وتلك قاعدة البناء الأولى لمجتمع منمذج وفق تشريعات أصيلة؛ (فإن لم تكن تراه فإنه يراك) وهنا تأتي القاعدة الثانية التي تحول بين اصطدام القيم الدافعة بالرقابة الخارجية.

الحاجة إلى (الوفاء بالعهد، العدالة، الشفافية، الالتزام، الأمانة، المسؤولية المجتمعية، والعفو) لا تأتي بالرقابة الخارجية، هي قيم دافعة تنشط بالرقابة الذاتية. 

مسك الختام:

القيم الدافعة هي قاطرة التقدم الحضاري نحو القمة. 

فهل تبني وغيرك يهدم؟